بقلم المفكر والأديب / د . علوى القاضى
«(:)»مجالس القاضى الرمضانية«(:)»
المجلس الخامس عشر
إدارة : د/علوى القاضى.
... فى بداية المجلس بادرنى أحدهم بسؤال : حضرتك تكلمت بالمجلس الماضى عن التصوف الحق ، وكيف أنه لايتفق مع بدع وخرافات وخزعبلات اليوم وتكلمت عن صفات المتصوف ، أليس المتصوف تنطبق عليه صفات المؤمنين ، وقرأ ( قد أفلح المؤمنون الذين هم ،.،.، ) إلى ٱخر السورة
... بعد حمد الله والثناء عليه بإسمه المؤمن المهيمن العزيز وبعد الصلاة على نبيه (ص) والدعاء بالتوفيق وتوحيد القصد لله أجبته
... نعم أخى الكريم فإن المتصوف الحق الذى يلتزم بالمنهج الصوفى الحق ينطبق عليه كل صفات المؤمنين كما ذكرت فى السورة لأن :
... المؤمنون هم أهل الحلم والصبر والتواضع والتسامح والحياء (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)
... صمتهم فكرا ونطقهم ذكرا ونظرهم عبرا
... تراهم يخفضون أصواتهم ويبعدون عن الهرج والمرج والصخب والتلاعن والفحش في القول ، ويتميزون بالتأني والإتقان والصدق والإحسان في العمل
... ويتصفون بدماثة الخلق ولين الطبع والصدق والوفاء والإعتدال في كل شيء
... وتغلب عليهم السكينة وصفاء النفس ونقاء السريرة
... وهم بذلك إستطاعوا أن يسودوا مملكتهم الداخلية وأن يحكموها ويسوسوها وبذلك انسجمت عناصر أنفسهم وتوافقت بين متناقضاتها وإنقيادها في خضوع وسلاسة لصاحبها المؤمن فحدث توافق الظاهر مع الباطن
... هذه السكينة تظهر عندهم ليس في هدوء السطح علي وجوههم بل هدوء العمق ، هدوء الباطن ، وليس هدوء الخواء ، ولاسكون البلادة ، وإنما هدوء التركيز والصفاء ، واجتماع الهمة ، ووضوح الرؤية
... وهذه هى خصائص المؤمن ، لماذا ؟!
... لأن علاقة المؤمن بماحوله علاقة متميزة مختلفة ، علاقته بالأمس والغد ، وعلاقته بالموت ، وعلاقته بالناس ، وعلاقته بعمله ، ونظرته للأخلاق فهو يؤمن بأن الدين المعاملة
... هذه العلاقة تنجلي في أن تشبع رغباتهم ، بما لايتعارض مع حق الآخرين في إشباع رغباتهم ، أي أن حريتهم تنتهي عند حرية الٱخرين
... المؤمن يستطيع أن يقمع رغباته ويخضع نفسه ، ويخالف هواه ، ويتحكم في شهواته ، وهو بهذا يستحق هذه الخلافة ، والسيادة على العالم ، لأنه ساد نفسه أولا ، وتحكم في مملكته الداخلية ليسود المجتمع الوئام والسلام و المحبة
... المؤمن هو تركيب نفسي مختلف وأخلاقي مختلفة ، فهو يرى اللذات الدنيوية زائلة ، وأنها لاتساوي شيئا ، وأنها مجرد إمتحان إلى منازل ودرجات وراءها
... وأن الدنيا مجرد عبور إلى تلك المنازل والدرجات الباقية
... وأن الدنيا كالخيال ، وأن الله هو الضمان الوحيد في رحلة الدنيا والآخرة
... وأنه لاحاكم ولامقدر سواه ، ولوإجتمع الناس على أن يضروه لما استطاعوا أن يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه ، وإن اجتمعوا على أن ينفعوه بشيء لما استطاعوا أن ينفعوه إلا بشيء كتبه الله عليه
... ولهذا فإن المؤمن لايفرح لكسب ولاييأس على خسران ، وإذا دهمه مايكره قال في نفسه (وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ)
... وهو يؤمن أن الله حكيم عادل رحيم لايقضي بالشر إلابسبب ولحكمة أولفائدة واستحقاق عادل
... وهو يقاتل ثابت القدم أمام الموت ، وهو يقول (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) ، (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمَْ) ، (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًاَ)
... وهو لايحسد أحدا ولايغبط أحدا ، بل هو مشفق على الناس مما هم فيه من غفلة ، يقول له قلبه (لَايَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) ، (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ، نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ ۚ بَل لَّايَشْعُرُونَ) ، (أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ ۚ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) ، (مَاأَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَافِي أَنفُسِكُمْ إِلَّافِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ، لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَافَاتَكُمْ وَلَاتَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَايُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) ، (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَاكَتَبَ اللَّهُ لَنَا)
... وثمرة تلك الآيات عند المؤمن هي السكينة والهدوء النفسي وإطمئنان البال والثقة في حكمة الله وعدله ورحمته وتصريفه
... ومثل هذا المؤمن كلما ترك شهوة من شهواته ، وجد عوضا لها حلاوة في قلبه ، مما يلقى من التحرر الداخلي من أغلال نفسه ومما يجد من النور في بصيرته
... وهو يترك أهواء النفس إلى وجه الحق ويكف عن التلهف والحركة وراء الأغراض والمناصب والرياسات والمغانم ويسكن إلى جنب الله
... ومن صفات المؤمن العامل لوجه الله أنه ناهض بالهمة على الدوام لايفتر ولايكسل ولايتواكل
... المؤمن قاصد وجه ربه فإنه لايفتر لأنه لم يربط جهاده بأجر وهو لايكسل متواكلا على مغفرة لأنه لايتحرك بالخوف من عقاب ، وإنما هو عبد محب متطوع ، العمل عنده سعادة
... لهذا لاتجده متبرما ولامتسخطا ، وإنما هو دائما طلق الوجه مشرق البسمة متفائل ، حامد لربه في جميع الحالات ، لايسب الدهر ، ولاينسب لربه نقصا ولاقصورا
... وهذه التركيبة النفسية النادرة هي ثمرة الإيمان بالقرآن وهي ثمرة التوحيد
... أحبابى ، ليس بعجيب أن منهج الإسلام الوسطى من خلال القرآن والسنة أقام إنسانا وربى نفسا بديعة سوية متفردة في تكاملها وأشرق عليها بسكينة لامثيل لها وهي نفس المؤمن ، ومثل تلك التربية الفذة تشهد للقرآن بأنه خرج من الذات الإلهية ، فلا مربٍ مثل الرب ولامعلم مثل الحبيب المصطفى (ص)
... اللهم إجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه واحشرنا مع حبيبك المصطفى صل الله عليه وسلم واجمعنا به على حوضه واسقنا من يده الشريفة شربة هنيئة لانظمأ بعدها أبدا
... اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك
... آمين ، آمين ، آمين
... تحياتي ...
تعليقات