بقلم الأديب المبدع / د . محسن الرديني

تمني ربما جاء التمني                               قصة قصيرة      ...                                                  د.محسن الرديني                                                                               دقت اجراس الساعة معلنة التاسعة صباحا ، كان ذلك التوقيت ايذانا ببدء المحاضرة النظرية الاولى لمادة علم التخلق Epigenesis التي كانت ضمن المنهاج المقرر لطلبة الدراسات العليا والتي لم نكن نعلم شيئا عن ماهيتها او بماذا تتعلق ومن هو استاذها. كانت مادة مقررة لطلبة مرحلة  الدكتوراه فقط ، اذ لم يسبق لنا دراستها في مرحلتي البكالوريوس او الماجستير كونها كما زهرة لنا مادة متشعبة تجمع مابين علم الوراثة وتأثير البيئة في الكائنات الحية وجيناتها وفلسفة التخلق وعلوم متداخلة اخرى كعلم  التكوين Genetcs الذي يبحث في تشكيل الكائنات الحية واشكالها وعلم الاجناس (انثروبولوجيا) او ما يسمى بعلم طبيعة الانسان وعلم الاجنة وعلم التشريح المقارن. كنا ثلاثة فقط في هذه المرحلة الدراسية ( طالبتان وانا). كانت قاعة 3 للدراسات العليا ، حيث مكان المحاضرة ، تمثل لنا في تلك الساعة شيئا مجهولا ندخله اول مرة لدرس غامض غير معروف لنا من حيث المضمون والعنوان . دخلنا القاعة بانتظار مدرس  المادة الذي لم نتعرف عليه بعد .دخلت  القاعة سيدة تحمل اوراقا وحاسبة والقت علينا تحية رقيقة وعرفتنا بنفسها، انا الدكتورة فلانة تخصص كذا من جامعة كامبرج، واخذت بالتعرف علينا تباعا ومن ثم بدات بذكر مفردات ومنهجية الدرس Syllabus، كانت انيقة وجذابة بجمال طبيعي هادئ وبدا عليها انها في بداية الاربعينات من العمر .كانت جميلة بشكل لا يصدق، اذ ظهرت وكأنها قطعة بلور مشعة مرصعة بحمرة شمس صباحية وقد صاغها الباري باجمل صورة . كائن بشري ساحر.  بسيطة غير متكلفة محتشمة المظهر بملبس بسيط . ومع بريقها الاخاذ وجاذبيتها الشديدة ، كانت هناك مسحة حزن خفيفة تظهر على محياها احيانا فتحاول تدارك الامر واخفاءها . استمر حضورنا المحاضرات والمناقشات معها بتفاعل وحب وانسجام ورغبة عارمة من الجميع خاصة فيما يتعلق بموضوع فلسفة الخلق والتكوين التي تصدرتها فلسفة ارسطو الذي تعشقه هي كثيرا ، فكانت تتوافق احيانا مع افكارنا واحيانا نتعارض بشدة دون فرض راي قسري لاحد منا على الاخر . كانت هي معجبة ومتاثرة جدا بالمدرسة الاغريقية وفلاسفتها كارسطو وسقراط وزينون وافلاطون ومتوافقة مع افكار ارسطو بشكل خاص فيما يتعلق  بالجدل الدائر حول ايهما مخلوق اولا اللحم ام العظم وتعدها مقدمات لما جاء به القران الكريم رغم ديانتها المسيحية وطبعا كان راينا في ذلك معارضا ومناقضا لرأيها تماما  اذ لا يوجد دليل تاريخي واحد على ان ارسطو قد درس تكوين وتطور الاجنة بل تكلم فقط عن اللحم والعظم وكيف تسند العظام اللحم وهذه بديهيات يدركها الجميع ، بينما القران الكريم شرحها بالتفصيل من المضغة الى العلقة الى الخلق الكامل وهذا ما اثبته العلم الحديث بتقنياته المتقدمة بذات المراحل المتسلسلة التي تناولها القران قبل فرن ونيف تماما.  ومع ذلك، كانت هي في غاية الاحترام والاستماع لرأينا حتى المعارض لها.  تحول هذا الدرس الى حالة فريدة من النقاشات العلمية الجادة ويوم بعد يوم كانت تتجسد فيه راحة نفسية وفكرية  مشتركة لا توصف بيننا  وفي كثير من الاحيان كان النقاش يمتد طويلا الى ما بعد انتهاء المحاضرة ، لقد جعلت هي من درس الفلسفة الثقيل درسا محببا منتظرا رغم صعوبته وحاجته لفهم وفكر موسوعي عال وعمق ثقافي واسع واطلاع متنوع واصبحنا من خلالها نعشق الفلسفة ونبحث عن جذورها وتطورها بكل عصورها واولياتها واثباتاتها ودحض بعض نظرياتها. ولانها تحب الفلسفة بشغف  ، فقد كانت تعشق الشعر والادب بشغف أيضا ، ولهذا كانت تحب اجوبتي التي احاول صياغتها باسلوب علمي شاعري واتعمق في الاجابة كثيرا وادققها فاحيانا اسندها بابيات شعرية او حكمة او نص قراني او قول ماثور او راي فلسفي يتسق وموضوع الامتحان، وهذا ما جعلها تضع قصيدتي (تراتيل في غياب الحبيب) التي كتبتها كجزء ثان لاغنية انا وليلى لكاظم الساهر خلفية لشاشة حاسبها ، كان حزنها الشفيف يؤلمني كثيرا وكنت اتمنى معرفة سببه الحقيقي. في احد الامتحانات الفصلية، وبعدما اجبت عن سؤال يتعلق باصل تكوين الانسان هل هو من الماء ام من التراب واجابتي عن ذلك ان المنطق يقول ان التراب هو ارض ميتة في كينونتها ابتداءا فيحييها الله بالماء لانه جعل من الماء كل شيئ حي فاصبح تكوين المجسم البشري على هيئته المعروفة بوساطة قالب من طين صنع من خليط من مزيج التراب والماءوبعد الاجابة بالادلة والبراهين والنصوص  كتبت لها في نهاية الورقة بيت الشعر المعروف لابي اسحاق الغزي ( مالي ارى الشمع يبكي في مواقده من حرقة النار ام من فرقة العسل) مستفهما فيه بطريقة غير مباشرة عن مسحة حزنها تلك.  وزعت اوراق الامتحان الاخير لزميلاتي الا ورقتي ، فقد اخبرتني بدرجة اجوبتي لكنها ستحتفظ بها كذكرى ان سمحت لها بذلك فلم اتردد ووافقت على الفور وشكرتها باعتزاز وتقدير كبيرين فشكرتني بالمقابل هي وقالت لماذا كتبت هذا البيت الشعري في اخر الورقة االامتحانية وما القصد منه ؟ .قلت انها مسحة الحزن التي اراك تحاولين اخفاءها ؟.  قالت نعم ، سابين لك ذلك..                                    في بداية حياتي، وفي سن المراهقة،كانت تعجبني فكرة الرهبنة المقدسة ونذور العزوبية والتفرغ إلى عبادة الله والالتزام الديني في الكنيسة التي من شروطها الخاصة عدم الزواج للراهب اوالراهبة وكنت على استعداد لذلك لكني لم التحق بها بل هي كانت فكرة فقط. اكملت دراستي الجامعية الاولية بتفوق ملحوظ وقدمت لنيل شهادة الماجستير وحصلت عليها كذلك بتفوق. ورغم ان العشرات قد تقدموا لي اثناء ذلك لكن كان هناك شيئ ما  يمنعني من الارتباط او الزواج ، والسبب  ربما كان يعود الى فكرة الرهبنة الجادة سابقا التي كان لها اثر نفسي كبير في نمط تفكيري او قد يرجع الى سقف طموحي العالي بالحصول على اعلى الشهادات او ربما بسبب مركب الغرور واللمعان والانبهار والاعجاب الشخصي بنفسي والنرجسية العالية التي كانت  تعتريني حينها. المهم ، اكملت الدكتوراه في بريطانيا وحصلت على عقد عمل هناك وكان جل طموحي النجاح بتفوق عال ومواصلة اثبات الذات خاصة بمجال العمل الذي كان يشغل تفكيري كثيرا مما اوقف ارتباطي العاطفي واخر اتمام مشروع زواجي وانجاب طفل يملا حياتي وهذا هو موضوع حزني، فحسرتي على ضياع فرصة  انجاب اطفال والتي كانت للأسف باختياري وارادتي انا تجعلني اشعر بان ما أنجزته من نجاح كبير في حياتي المهنية لا يساوي شيئا أمام شعور الأمومة الجارف بداخلي الان لكن فات الاوان ولا ينفع الندم . اثناء هذه الشحنة العاطفية الصادقة، سقطت دمعة خارقة منها على كتاب كان أمامها بعنوان العبر وديوان المبتدأ والخبر لابن خلدون فمحت هذه الدمعة الوجدانية كلمة المبتدا ولم تبق الا كلمة الخبر عندها استحلفت انا ذلك الملك العظيم جلجامش ان يهبها من خزائنه نبتة الخلود الابدي كي تستعيد ما كانت تتمناه من رجع لعمر مسروق وأمنيات ضائعة واستعيد أنا معها كذلك ما محته دمعتها اللاهبه تلك من حروف المبتدأ ليكتمل المبتدأ والخبر بضحكة طفل كعنوان بارز  بيننا مرة اخرى   .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بقلم الشاعر المبدع / د . الشريف حسن ذياب الخطيب

بقلم الأديب المبدع / السيد صاري جلال الدين

بقلم الشاعر المبدع / محمد راتب البطاينة