بقلم الشاعر المبدع / معز ماني
محاكمة التعليم ...
في المحكمة كان التعليم متهما
بإهمال العقول وإساءة الفهم
وتسريب الأحلام من المناهج الرسمية
وكان القاضي يرفع صوته
أين الشهادات التي وعدتم بها ؟
قال التعليم في البدء كان الدرس فكرة
ثم صار حصّة ثم جدولا ..
سأحاكمكم لأنكم طلبتم مني أن أعلّم الجهل
قال القاضي وأصابته الدهشة
ماذا؟ كيف؟
أجاب التعليم مبتسما بسخرية
نعم هذا ما حدث
لأنكم زرعتم في عقول التلاميذ
بذورا من الحشو..
وجعلتم من الاجتهاد معركة
والتفكير جرما ..
فقام أحد أولياء الأمور من الخلف
وكان غاضبا كمن فقد ابنه في امتحان
وقال لا تكذب أيها التعليم
أنت من علمتنا أن النجاح بالحيلة
وأن الغشّ مهارة اجتماعية
وأن الشهادة أهمّ من المعرفة
وأننا كلّنا ناجحون
ما دام الوزير راضيا ..
ضحك الجميع حتى القاضي
الذي حاول أن يبدو محايدا ..
ثم قالت إحدى الأمهات بصوت مخنوق
يا سيدي لقد صار ابني لا يعرف
الفرق بين بيت الشعر وبيت الجيران
يكتب المتنبي بحرفين من التيك توك
ويعتقد أن ابن خلدون مؤثر على إنستغرام
وهيفاء وهبي هي صاحبة كتاب
سيكولوجيّة الجماهير ..
ارتفعت الهمهمات ..
وأحضر شاهد جديد المعلم ..
وعلى وجهه غبار الطباشير وخيبة الأمل
قال القاضي:
تفضل اشهد على المتهم
فقال المعلم وهو يبتلع أنينه ..
يا سيدي أنا مجرد موظف في مملكة الصبر
أدرّس بعقلي وأحاسب بجدول الحصص
أكتب الأمل على السبورة
لكن الطلاب يرسمون عليه القلوب والشتائم..
سأله القاضي ..
ولماذا لا تزرع فيهم حب العلم ؟
قال وهو يبتسم ابتسامة مرّة ..
حاولت لكنهم يريدون أن يعرفوا
هل الحبّ سيكون في الامتحان ؟
وإن لم يكن فلماذا ندرسه ؟
عمّت القاعة موجة ضحك صادقة كالدمع
ثم وقف شاهد آخر التلميذ نفسه
طفل صغير يحمل حقيبة أكبر من أحلامه
قال القاضي له برقة مصطنعة
تكلم يا بني لا تخف ..
قال الطفل يا سيدي
نحن نأتي إلى المدرسة كلّ صباح
لكننا نخرج منها كما جئنا
لا نحمل سوى الغبار على الحذاء
والأسئلة التي لا إجابة لها ..
رفع القاضي رأسه ببطءٍ وقال:
يا ولديهل تعرف ما معنى التعليم ؟
قال الطفل نعم ..
هو أن نحفظ أسماء المخترعين
دون أن نخترع ..
وأن نقدّس الحفظ
ونخاف منه أكثر من أحلامنا ..
ارتجّت القاعة ..
الوجوه تراجعت إلى الوراء
كأن الجميع أدركوا أنهم
شهود في جريمة جماعية ..
جلس القاضي صامتا
تأمل الأوراق أمامه ..
وقال بصوت متعب من كثرة القرارات
نحن لا نحاكم التعليم
بل نحاكم أنفسنا
نحاكم زمنا ظنّ أن التقدّم
يقاس بكمية الحفظ لا بنوعية الفكر
وبكثرة المواد لا بعمق الإنسان
كنّا نؤمن أن التعليم خلاص الأمم
لكنّنا الآن ندرّس لأطفال
يحلمون أن يصبحوا مؤثرين لا علماء
نجوما في تطبيق لا شموعا في طريق
التعليم بريء ..
والمتهم الحقيقي مجتمع
لا يقرأ الحكم إلا إذا كان عليه علامة نجاح ..
ثم أغلقت المحكمة .
وسلّمت القضية إلى لجنة عليا
لدراسة أسباب الانهيار
تبدأ عملها بعد تشكيل لجنة أخرى
لدراسة أسباب التأجيل ..
تعليقات