بقلم الأديب المبدع / د . علوي القاضي
«(؛)» من ذكريات الطفولة «(:)»
د/علوي القاضي .
(عم مصطفى البقال)
... لم يستيقظ عم ( مصطفى ) أبدا لصلاة الفجر ، لأنه لم ينم قبلها ، في شارعنا الذى يقسم قريتنا سرس الليان ٱن ذاك إلى شطرين ، ولذلك سمى ش وسط البلد ، لما يحتويه من محلات خدمية ومؤثرة ، فيه محل (البقالة) عم [مصطفى] بجلبابه الذي لم يتغير مع الزمن ، ويحتفظ به كشاهد على التعب والشقاء على (لقمة العيش) ، وكنت حينما أقترب منه أشتم جميع روائح البقالة ، ومحل (المكوجي) عم [فتحي] بخفة دمه ، ومحبة الناس له ، وأحبابه الذين لم يفارقوه حتى ٱخر أيامه ، ومحل (الحلاق) راجي عفو الخلاف الأسطى [غريب] الحلاق ، الذي كان يتجول في الحقول ليحلق الشعر للفلاحين ، وينتظر يوم الحصاد حتى يجني ثمرة تعبه طوال العام مايسمى بـ (المسنية) ، ومحل (الترزى) عم الأسطى [إبراهيم] الذي تجاوز السبعين عاما بظهره المنحنى ، وجلبابه الأزرق الذي لم يتغير لونه حتى وفاته ، ونظارته المكبرة الغليظة فى مظهرها ، ومحل (اللبودي) عم [محمد] الذي كان يصنع غطاء الرأس الشعبى مايسمى بـ (الطاقية) من صوف الغنم ، وكان دكانه يشبه قهوة الفيشاوي ، فكان يرتاده كل من كان يطلب (الشاى أو القهوة أو النرجيلة) ، وكم تخرج من هذا المحل مرضى بالسرطان بسببها ، وكان يتذوق الشعر فكان يمتلك ديوان (عنتر وعلبة) ، وكثيرا ماكان يستعين بى لقراءته على مسامعه ومرتادي المحل ، ولأن محله كان أمام المسجد فكان يجلس معه من ينتظر فتح المسجد وبعد الصلاة ، وكم أتذكر الشيخ (محمود) القارئ للقرٱن في المٱتم ، والذي كان يستعين بحفيده لجمع ونقل بقايا الأكل من المأتم إلى منزله ، ولاأنسى إمام المسجد الشيخ (عبد العاطي) صاحب كتاب تحفيظ القرٱن ، وكم ألهب ظهورنا بعصاته أثناء تحفيظنا للقرٱن ، وكان يغلق المسجد بين الصلوات ، حتى يتفرغ لصناعة (المقاطف) من سعف وأوراق النخيل داخل المسجد
... ليلا ، ذلك الشارع الضيق الصغير كان الضوء الوحيد فيه ينبعث من بقالة عم (مصطفي) فلم تكن أعمدة الكهرباء قد شرفت فى شوارعنا ، وكان هو المكان الوحيد بالنسبة لسكان الشارع ، الذي تستطيع أن تبتاع منه علبة سردين أو شاي أو سكر أو تبغ بعد الثانية صباحاً أو قبل أذان الفجر
... إنه مكان دافئ وآمن يشبه الفنار للسفن الضالة علامة مميزة في الشارع ، وكلما ذهبت إليه أجده جالساً وسط المحل بين البضائع ، مستعينا بموقد الكيروسين بدفئه الجميل وصوته العذب فى ليالى الشتاء ، والبطانية على كتفيه وصوت (أم كلثوم) ينبعث من ذلك المذياع العتیق المربوط بالحبال وجلساءه ، منهم من طلب قطعة حلوى وسميط ، والآخر رغيف خبز وبعض من العسل الأسمر المغطى بالطحينة البنية ، والٱخر قطعة جبن وخبز ، وكنت أتعجب لماذا هؤلاء هكذا أليس لهم بيوت يأكلون فيها ، ولما علمت بضيق حالهم إكتشفت أنهم يأخذون بضاعتهم بالأجل
... كنت أقف على باب دكانه متلذذاً بذلك الشعور ، فظهري يرتجف من الصقيع ، ووجهي ينعم بالدفء ، ذلك الشعور كان يبعث في القشعريرة ، مع رغبة عارمة في أن أدخل لأجلس بالداخل ، لكن هذا مستحيل لأن المحل ضيق جداً
... بقالة عم (مصطفى) كانت من الأماكن النادرة في فريتنا التي تجعلك تشعر بأن الحياة تستحق أن نحياها ، وقد كان لسان حال ساكني الشارع يقول (لو إستيقظنا يوماً فوجدنا أن هذا الرجل مات لشعرنا بأن العالم قد إنهار) ، الرجل نفسه كان عجوزا ومبتسما ، لم يترك مرضاً إلا إتخذه لنفسه وشكى منه ، ومن كثرة ذكره لأمراضه كنت تشعر وكأنه يفتخر بها ، إنه يحدثك باعتزاز عن النقرس ، ويحدثك بفخر عن الروماتزم ، ويحدثك بكبرياء عن داء السكري ، ولم أنسى يوم ماحدث له مايسمى بـ (الفتق السري) والذي كان سببا في وفاته
... هكذا يظل الرجل في متجره وحيداً لا تعرف فيما يفكر ولا أية ذكريات يجترها ، ثم يتعالى صوت أذان الفجر فينهض ، ومعجزة أن تراه كذلك بعد هذا المجهود اليومى المستمر ، وتتعجب لذلك
... إنه يغلق المتجر ، يمشي إلى المسجد وهو يردد الأدعية ، يؤدي الصلاة ثم ينصرف إلى داره ، إنه يعيش مع زوجته العجوز ، فقد تزوج أولاده ، ولم يعد معه أحد في المنزل
... وهكذا لن نراه ثانية إلا بعد صلاة الظهر
... أعترف وأنا طفل أنني كنت أحب هذا المتجر وهذا الرجل وترك لي دروسا لاأنساها
تعليقات