بقلم الأديب المبدع / د . علوي القاضي

«®» خواطر طبية «®»
          ( ★ الأم ★ )  
من مذكراتي : د / علوي القاضي.
... لا أريد أن أقول كلاماً تقليدياً ومرسلا ، عن كون أمي أعظم أم في العالم ، أو أطيب أم في الخليقة ، لأنني لا أحب الكلام بهذه الطريقة الكلاسيكية ، لكن بالفعل أمي كانت أعظم أم فى العالم ، وهذا رأي كل منا في أمه ، وله مبرره ، والأهم هو الحب الفطري ، والإتصال المادي والروحي مع الأم ، الذي بدأ بالحبل السري ، بالنسبة لى فأنا أعتبر أنني وأمي نعيش بروح واحدة ، نصفها كان في جسدها ، ونصفها في جسدي ، ولما فارقتني فارقني النصف الأفضل من روحي ، لذلك فأنا أتوق لجمع النصفين مرة أخري عند الرحمن الرحيم ، ويكفيني أنني كلما تذكرت صفة واحدة من صفاتها أبكي على فراقها
... ولا أنسي ، عندما ماتت وخرج السر الإلهي ، كنت أقف بجوارها أبكي بشدة وأقول لها (كلميني ولو كلمة واحدة فقط ، قولي إنك راضية عني ، و اغفري لي شقاوتي و تمردي ، اللذين تسببا في إرهاقك طوال طفولتي
... أحياناً لا أتذكر كل التفاصيل عنها ، و أحياناً لا أتذكر كل المواقف لها ، لكن حينما أتذكر لا يفارقني مشهد الفراق ، وأنا أشاهد نصف روحي ينتزع مني 
... هذه المشاعر أبكتني حينما شاهدتها ، من شاب في منتصف العمر ،  هذا الشاب ، كان يأتي لزيارة أمه في العناية المركزة مرتين يوميًا ، لا يتأخر أبدًا ، وكان الممرضون يعرفون جيدًا مواعيد زيارته ، لأنه كان  يوصيهم على أمه وبإلحاح ، حيث يرقدونها على بطنها ، ثم ينهال أحدهم على ظهرها بضربات ، والغرض هو إخراج الإفرازات من حويصلات الرئة ، ثم يتم تقليبها ، بعد ذلك يوضع خرطوم الشفاط في حلقها لشفط الإفرازات ! ، لو رأى الشاب هذه المشاهد لفقد وعيه
... لاحظت أنه يكلمها كلمات هامسة ، مختنقة ، تلخص وترسم حياته معها كاملة  
... كنت حينما أسمعه أجد دمعة تسيل من عيني ، وأنا أسمعه يناجيها في سكون العناية المركزة ، ليس صوته جهيرًا لكن الصمت يجعله كذلك
... سمعته يقول (فاكرة يا امه ؟! لما كنت آجي أقضي عندك آخر عشر تيام في رمضان كل سنة ، وأعتكف عندك ، وتقولي لي عاوز أطبخ لك إيه ؟! ، نقوم نكتب لستة أكلات للعشر تيام ، أكلات من اللي كنت باكلها وأنا صغير ، ومراتي مش بتعرف تطبخها)
... فيسود الصمت وتسيل العبرات  
... وفي جلسة أخرى أسمعه يكلم أمه وهي لا ترد فيقول ، (بعد ما أصلي التراويح في رمضان أنام ، وأقول لك صحيني الساعة 12 ، كنت باحب صوتك أوي وإنتي بتناديني ، قوم يا واد ، كنت أعمل نايم عشان تناديني كذا مرة واسمع صوتك) ، ثم يختنق صوته ، والحق أنه فعل كل ما يمكنه كي يقضي على نفسه ، تأثرًا وألمًا على غيبوبة أمه 
... مرة شغل المحمول جوارها ليسمعها صوت الأذان ، (عارفة ده صوت مين يامه !؟ ، الشيخ رفعت ، طول عمرك بتحبي الشيخ رفعت ، بيفكرك برمضان)
... ومرات يعود ليجعلها تكرر الكلمات وراءه ، بالطبع هي لاتفعل ، لكنه يستخلص من قسمات وجهها وطريقة تنفسها أنها تكرر ، (قولي ورايا ، سبحان الله والحمد لله ، فاكرة لما كنت باقولها غلط وانتي تخليني أقولها صح ؟!
... ومرة يريها صورة على الهاتف المحمول ، هذا ما إستنتجته من كلامه ، وتدرك كذلك أنه يضع الصورة أمام عينيها الذاهلتين ، (دي صورة إبني يوم ما اتولد ، صورته أهي معاكي ،  إبني إتخرج يا امه ، فاكرة يوم التخرج ؟!)
... كان الموقف بالنسبة لي مؤلما وخانقًا وداميًا مع ما فيه من دلالات قاسية ، لقد إنقلبت الآية ، وصارت الأم التي تربي طفلها وتعلمه الكلام ، صارت هي الطفل الذي يحاول الإبن تعليمه من جديد ، لم يعد لها من سند واحد في هذا العالم سوى قلب هذا الإبن الصغير ، ومن الواضح أنها أحسنت تربيته
... ولما شعر أنها ستودعه أخذ يلح عليها (يا امه ، قولي ورايا ، لا إله إلا الله * محمد رسول الله) ، وهي لا ترد فيردد (حرام اللي بتعمليه فيا ده ، إتكلمي يا امه)
... اللهم بارك فيمن عاش منهن وارحم من فارقنا منهن
... تحياتي ...


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بقلم الشاعر المبدع / عبده عبد الله الإدريسي

بقلم الأديب المبدع / السيد صاري جلال الدين

بقلم الشاعر المبدع / د . الشريف حسن ذياب الخطيب